[center]'رجل
مسن يقف في قاعة الانتظار، فيما مجموعة شبان يجلسون على المقاعد
ويتبادلون الأحاديث. مشهد مثير للدهشة، ولكن ليس المراهقون وحدهم لا
يكترثون لهذا الرجل المسن. فهناك على الطرف الآخر لقاعة الانتظار فتاة
صغيرة تحتل مقعدًا يسع ثلاثة أشخاص، وتبدو هذه المساحة بالنسبة إليها
ملكًا لها، فهي تضع قدميها على طول المقعد وعرضه وأحيانًا تقف عليه وتقفز،
فيما والدتها واقفة في الممر، ليس فقط لا تقول لها شيئًا بل تنظر إليها
بسرور'.
هذا المشهد يتكرر أمامي في كل
الأمكنة التي فيها قاعة انتظار مثل محطة القطار، أو بهو المستشفى أو
المطار... وأجده غير طبيعي ومستفزًا أحيانًا. ونادرًا ما يتدخل أحد كما لو
أن الأمر لا يعنيه، وإذا اعترض هذا الرجل المسن يصدر حكم نهائي بأنه عجوز
لا يحب الأطفال'.
وهنا يطرح السؤال
- ما علاقة هذا المشهد بأصول اللباقة وقواعد الآداب الاجتماعية؟
والجواب
لأنه يسمح بفهم معنى التهذيب وأهميته في حياتنا الاجتماعية. ولكن لماذا لم
يتدخل أحد ويعترض على تصرف هذه الطفلة الصغيرة؟ ولماذا نخاف من فتاة في
الرابعة؟ لأنه ليست هذه الطفلة من يمنع الاعتراض وإنما ما تمثله. أي شخصية
الطفل عمومًا وحقوقه التي تلزم الراشدين باحترامها. ولكن في الوقت نفسه
فإن هذه الطفلة تمثل إنكار أمرين أساسيين: الأول إنكار وجود الآخر وإنكار
قواعد الحياة الاجتماعية التي نستعملها تبعًا لأمزجتنا. فهذه الطفلة لا
تحتل مقعدًا فحسب بل أكثر، وإذا كان في إمكانها احتلال كل المقاعد فلن
تتردد.
فهي وعن غير قصد تريد أن تصبح مركز العالم، وإرادة أن
تكون مركز العالم متعة مضمرة تبدأ مع الرضيع. وكل الناس مرّوا بهذا الشعور
الموجود في اللاوعي الإنساني، ولكي نقيم وزنًا للواقع والقواعد الاجتماعية
والآخر نلتزم بالقواعد الاجتماعية فلا نفعل ما نريده كما نشاء وكيفما
نريد... والحال أن الراشدين في قاعة الانتظار يشاهدون شكلاً من أشكال
الإمساك بالسلطة التي فقدوها مع الزمن، ويستعيدون ذكريات طفولتهم.
والإمساك بالسلطة سمّاه العالم النفسي سيغموند فرويد 'مبدأ اللذة'، فهذه
الطفلة تجرؤ على فعل ما لم يعد الراشد يجرؤ على القيام به. فالحدود
والقوانين، رغم أنها أحيانًا تقيد الإنسان، فإنها تحميه في الوقت نفسه.
وهذا ما يفسر مشهد الأم التي تنظر إلى طفلتها بسرور، وصمت الراشدين حولها.
فضلا عن التوجه الاجتماعي اليوم المطالب بحقوق الطفل والذي يمنحه الكثير
من السلطات: 'أن تحب طفلاً يعني أن تسمح له بكل شي!' خطأ نرتكبه عن غير
قصد.
وإذا
كانت رواية هذا المشهد تعليمية، فهي تعكس، بعيدًا عن الكلام المنمق
والتصرفات المألوفة، وجهًا من وجوه التربية، فاللباقة والتهذيب عنصران
أساسيان لبناء شخصية الطفل، ووسيلة ضرورية لمقاومة مبدأ المتعة وعدم
الاكتراث لراحة الآخرين الذي يهدد بالسيطرة على شخصية الطفل.
فلو أن
الأم في هذه الرواية لعبت دورها الحقيقي لكانت علّمت ابنتها المطلقة
الحرية اللباقة في هذه الحالة. كان في إمكانها أن تقول لها: 'اتركي مجالاً
للرجل المسن ليجلس، فهو متعب'. لو فعلت هذا فإنها لكانت علّمتها معنى وجود
الآخر وقدرتها على الإحساس به والشعور بألمه ومعنى القيم الإنسانية بجعلها
تتصرّف كما الكبار وقادرة على استيعاب الموقف والتصرف بناء عليه.
ولكن الأم لم تفعل هذا للأسف. فإذا كان الآخر بالنسبة إلى هذه غير موجود،
كيف يمكن أن تفكر أنها هي نفسها لديها قيمة وحق في احترام الآخرين لها؟
كيف تقبل أن تترك مكانًا لصديقتها في المدرسة تجلس عليه، فيما يمكنها أن
تحتل مقعدًا في الأماكن العامة؟
لا
تعكس لباقة الطفل وتهذيبه الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها بل قدرته
على الفهم العميق الذهني والعاطفي للآخر. 'فصباح الخير'، 'شكرا'،
'وداعاًَ'، عبارات لا يكفي التفوه بها لكي يكون الطفل مهذباً، بل عليه
معرفة آداب السلوك الصحيحة التي ستصير جزءاً من سلوكه الاجتماعي والتي
يحتاج تعليمه إياها إلى مجهودٍ يبذله الوالدان معه منذ نعومة أظافره،
خصوصاً أن الطفل غير المهذب لا يمكنه بناء علاقات اجتماعية ناجحة. فغالباً
ما يؤدي عدم التقيد بآداب السلوك إلى انحراف اجتماعي يظهر في مرحلة
المراهقة.