"العنترية" بئر مطوية بالحجارة دائرية الشكل تقع شمال غرب مركز قصيباء
اهتم الجغرافيون الغربيون ومن قبلهم الرحالة المسلمون في صحاري وقفار الجزيرة العربية كل حسب أهدافه وتطلعاته، فمؤرخو الإسلام كالهمداني وابن جبير وياقوت وابن بطوطة رأوا أن جزيرة العرب هي مهبط الوحي، ومهد خاتم الرسالات، كما أنها مسرح أمجاد العرب وديوان أشعارهم ومآثرهم، في حين زارها كثير من مستشرقي أوروبا للوقوف على ثرواتها وطرقها البرية وشواطئها على البحر الأحمر والخليج العربي إبان التنافس المحموم بين الدول الأوروبية للوصول إلى عالم الشرق، لا سيما بين فرنسا وبريطانيا اللتين ينسب إليهما معظم الرحالة الذين كتبوا عن الجزيرة العربية في القرون الثلاثة الأخيرة.
آثار قصيباء والنصلة و«عريجين منصور» ما زالت تحكي مآثره وبطولاته
ولأن آثار العرب بقيت محفورة في صدور الرجال، وبطون الكتب، فقد ظلت بعض هذه الأطلال الدارسة تحكي للأجيال اللاحقة صورة من مغازي الأجيال السابقة، وتصادق على روايات الأقدمين ومنقولات المعاصرين الذين ما زالوا يرون عنها ويستشهدون بها..
البئر العنترية، ومربط فرس عنتر، وحصاة النصلة أحد هذه الشواهد التي ما زالت تحكي لزوارها في محافظة عيون الجواء بمنطقة القصيم مآثر الفارس العبسي عنترة بن شداد، أحد أبرز رجالات عبس في "داحس والغبراء" وصاحب المعلقة الشهيرة:
هل غادر الشعراء من متردم
أم هل عرفت الدار بعد توهم
(بنو عبس)
ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ مني وبيض الهند تقطر من دمي
تنتمي قبيلة بني عبس المشهورة إلى قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وهي بذلك تمثل أحد فروع قبيلة غطفان القيسية النزارية التي كانت تسكن وتستقر في الشمال الغربي من منطقة القصيم، حيث يقول الهمداني في كتابه صفة جزيرة العرب: "ومن أوطان اليمامة: القصيم لعبس"، كما يقول ياقوت الحموي في معجم البلدان: "وأسافل الرمة تنتهي إلى القصيم، وهو رمل لبني عبس"، إلاّ أنه يحدد وبصورة أدق مساكن القبيلة في محافظة عيون الجواء الحالية فيقول: "الجواء واد في ديار عبس"، أما البكري في معجم ما استعجم فيقول: "وكانت منازل بني عبس فيما بين أبانين والنقرة وماوان والربذة، هذه منازلهم"، ويقول الزمخشري: "أبان الأبيض لبني فزارة وعبس"، كما يقول الأصفهاني في بلاد العرب: "إن أثال لعبس"، وعلى هذه يتفق معظم الرحالة والجغرافيون العرب على أن هذه المناطق بجبالها وشعابها داخلة الآن في منطقة القصيم وبالتحديد في محافظة عيون الجواء.
عيون الجواء
تقع محافظة عيون الجواء على بعد حوالي 45 كم شمال غرب مدينة بريدة عند تقاطع دائرة عرض 26.30.00 شمالاً مع خط طول 43.37.45 شرقاً، وسبب تسميتها عيون مضافة إلى الجواء – كما ذكر العلامة العبودي – تمييزاً لها عن عيون الأسياح، والمراد بها عيون الماء.
وورد في بعض المصادر والمراجع أنها كانت تسمى قديماً "عيون بن عامر" وتمتد من الشمال إلى الجنوب، وذكر بعض الرحالة الإنجليز الذين زاروا نجد أوائل القرن الرابع عشر الهجري أن فيها أكبر تجمع سكاني بين حائل وبريدة، ومنها مناطق وأماكن تحكي مآثر عنترة بن شداد العبسي، ومن ذلك على سبيل المثال:
بئر عنترة قديماً
* حصاة عنتر (النصلة):
بنو عبس غادروا «العيون» إلى الأندلس وبقيت شواهد مساكنهم
صخرة كبيرة من الحجر الرملي متأثرة بعوامل التعرية تقع على بعد حوالي 2 كم شمال غرب مركز غاف الجواء، وعليها العديد من الرسوم لحيوانات، وكذلك نقوش ثمودية ونبطية نفذت بالحفر الغائرة، وتظهر عليها التشويهات بالحفر.
* عريجين منصور (مربط فرس عنتر):
صخرة تقع على تل مرتفع يبعد حوالي 500م شمال غرب حصاة عنتر وأصغر منها حجماً، وتظهر عليها عوامل التعرية، وقد اختلف في تسميتها وعليها رسوم حيوانية وآدمية، ونقش ثمودي يتكون من سطر واحد نفذ بالحفر الغائر، وثلاثة نقوش ثمودية أخرى.
* مركز أثال:
يقع في الطرف الشرقي من الجواء كان ماء لعبس، وازدادت شهرته وأهميته لوقوعه على طريق الحج البصري إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، وينتشر فيه الكثير من الشواهد الأثرية التي تدل على قدم الموقع وأهميته مثل الكتابات والنقوش القديمة وغيرها.
* مركز قصيباء:
ويقع على بعد 80كم شمال غرب بريدة، ويوجد به قصر عنترة الذي يتكون من عدة وحدات معمارية وفي فنائه بئر محفورة، والعنترية وهي بئر مطوية بالحجارة دائرية الشكل تقع شمال غرب مركز قصيباء على بعد 8كم.
عنترة بن شداد
ما إن تذكر صفة الشجاعة والإقدام لدى العرب في العصر الجاهلي إلاّ ويذكر اسم عنترة بن شداد العبسي الذي ذكره خامل لحين تعرض قومه لإحدى الغارات من القبائل المجاورة، ولأنه كان ابن جارية حبشية اسمها "زبيبة" فقد رفض أبوه شداد العبسي أن يعترف به ما لم يقم بأعمال جليلة تنهض من شأنه، كما هي عادات العرب آنذاك، ولذا وجد عنترة في غارة هذه القبيلة على قومه فرصة لإثبات شجاعته وبطولاته؛ لا سيما وأن القبيلة المعتدية ساقت معها حرائر بني عبس ليس هذا فقط، بل كانت أولى هذه الحرائر عبلة بنت مالك تلك الفتاة المليحة التي أسرت بين سحرها ونحرها قلب عنترة بن شداد المملوك الأسود، لهذا لم يتوانَ هذا الرقيق الخامل الذكر من إجابة والده حين قال له كر ياعنترة، فقال لأبيه: إن العبد لا يحسن الكر، إنما يحسن الحلب والصر، فقال له أبوه: كر وأنت حر، فأشهد عنترة قومه على والده وانطلق كالبرق يجندل الخصوم يضرب هذا ويفتك بذاك حتى أعاد حرائر بني عبس تتقدمهن عبلة ابنة عمه مالك، وليتدفق ينبوع الشعر من لسان عنترة "الحر" ليصور لنا أدب "الحب والحرب" في معلقته الشهيرة وقصائده الغريرة لا سيما حين يقول واصفاً منازل قومه بالجواء:
يا دار عبلة بالجواء تكلمي
وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي
هلا سألت الخيل يا ابنة مالك
إن كنت جاهلة بما لم تعلمي
يخبرك من شهد الوقيعة أنني
أغشي الوغى وأعف عند المغنم
ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ
مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها
قيل الفوارس: ويك عنتر أقدمِ
ويظل عنترة يترقب بقاء عبلة بمنطقة الجواء "عيون الجواء" وبعده عنها، فيقول:
وتحل عبلة بالجواء وأهلها
بالحزن فالصمان فالمتلثمِ
كيف المزار وقد تربع أهلها
بعنيزتين أهلنا بالغيلمِ
ويعمّر عنترة طويلة حتى قُتل في إحدى معارك قومه بسهم لم يمهله طويلاً، ويعتقد المؤرخون أن وفاته كانت قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لحوالي خمس سنوات.