عش في حدود يومك
عش في حدود يومك
من أخطاء الإنسان أن ينوء في حاضره بأعباء مستقبله الطويل..
المرء حين يؤمل ينطلق في تفكيره في خطٍ لا نهاية له ، ما أسرع الوساوس والأوهام ، إلى اعتراض هذا التفكير المرسل ، ثم إلى تحويله هموماً جاثمة وهواجس مقبضة ، لماذا تخامرك الريبة ويخالجك القلق ؟!
عش في حدود يومك فذاك أجدر بك وأصلح لك.
يقول الأديب الإنجليزي توماس كارليل: " ليس لنا أن نتطلع إلى هدفٍ يلوح لنا باهتاً من بعد ، وإنما علينا أن ننجز ما بين أيدينا من عملٍ واضحٍ بيِّن."
وهذه النصائح تتسق مع قول الرسول صلى الله عليه سلم: " من أصبح آمناً في سربه ، معافىً في بدنه ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها"
إنك تملك العالم كله يوم تجمع هذه العناصر في يديك ، فاحذر أن تحقرها ،
إن الأمان والعافية وكفاية يوم واحد تتيح للعقل النيِّر أن يفكر في هدوء واستقامة تفكيراً قد يغير مجرى التاريخ كله ، بل حياة فردٍ واحد..
والواجب أن يستفتح الإنسان يومه وكأن اليوم عالم مستقل بما يحويه من زمان ومكان . كان الخليل إبراهيم عليه السلام إذا طلع عليه الصباح يدعو : " اللهم هذا خلقٌ جديد فافتحه عليَّ بطاعتك ، واختمه لي بمغفرتك ورضوانك ، وارزقني فيه حسنة تقبلها مني ، وزكِّها وضعفِّها لي ، وما عملت من سيئة فاغفره لي ، إنك غفورٌ رحيمٌ ودودٌ كريم" وكان يقول: "من دعا بهذا الدعاء إذا أصبح فقد أدى شكر يومه"
ولكن لا تنس غدك:
على أن العيش في حدود اليوم لا يعني تجاهل المستقبل ، أو ترك الإعداد له ، فإن اهتمام المرء بغده وتفكيره فيه حصافة وعقل.
وهناك فارق بين الاهتمام بالمستقبل والاغتمام به ، وبين الاستعداد له والاستغراق فيه ، بين التيقظ في استغلال اليوم الحاضر وبين التوجس المربك المحير مما قد يفد به الغد..
إن الدين في حظره للإسراف وحبه للاقتصاد إنما يؤمن المرء على مستقبله ، بالأخذ من صحته لمرضه ، ومن شبابه لهرمه ، ومن سلمه لحربه..
يقول الشاعر:
سهرت أعينٌ ونامت عيونُ في شئون تكونُ أو لا تكونٌ
إن رباً كفاك بالأمس ما كان سيكفيك في غدٍ ما يكونُ
أتدري كيف يسرق عمر المرء منه؟ يذهل عن يومه في ارتقاب غده ، ولا يزال كذلك حتى ينقضي أجله ، ويده صفر من أي خير..
كتب "ستيفن ليكوك" يقول: " ما أعجب الحياة"؟!
يقول الطفل: عندما أشب فأصبح غلاماً..
ويقول الغلام: عندما أترعرع فأصبح شاباً..
ويقول الشاب: عندما أتزوج. فإذا تزوج قال عندما أصبح رجلاً متفرغاً ، فإذا جاءته الشيخوخة تطلع إلى المرحلة التي قطعها من عمره ، فإذا هي تلحٌ كأن ريحاً باردة اكتسحتها اكتساحاً..إننا نتعلم بعد فوات الأوان أن قيمة الحياة في أن نحياها ، نحيا كل يومٍ منها وكل ساعة"
في هؤلاء الذين ضيعوا أعمارهم سدى وتركوا الأيام تفلت من بين أيديهم يقول تعالى : ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ﴾ (الروم 55). .