يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {ولقد آتينا لقمان
الحكمة أن أشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد
وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم}
سورة لقمان الآيات 12 - 13
وهاتان الآيتان تعرضا لبيان لقمان وان الله تعالى قد آتاه الحكمة ليشكر
الله فضله ونعمه عليه، وأختلف فيه ابرز الأقوال فيه أنه كان نو [وهو لقمان
بن ياعوراء بن أخت ايوب أو أبن خالته] وقيل كان من أولاد آزر عاش ألف سنة
وادركه داود عليه الصلاة والسلام واخذ عنه العلم، وكان يفتي قبل مبعث داود
فلما بعث داود قطع الفتوى فقيل له: ألا إكتفى إذ كفيت، وكان قاضيا في بني
أسرائيل وقد أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة والصواب أنه كان ولياًّ ولم
يك نبيا
والحكمة هي الصواب في المعتقدات او الفقه في الدين والعقل وعن أبن عباس
رضي الله عنه من حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم
يكن لقمان نبيا ولكن كان عبدا كثير التفكر حسن اليقين أحب الله تعالى
فأحبه فمن عليه بالحكمة وخيره في أن يجعله خليفة يحكم بالحق فقال: رب أن
خيرتني قبلت العافية وتركت البلاء وأن عزمت فسمعا وطاعة فأنك ستعصمني:
وزاد: فقالت له الملائكة بصوت لا يراهم: لمَ يا لقمان؟
قال: لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها يغشاه المظلوم من كل مكان إن يعن
فبالحرى أن ينجو، وأن أخطأ أخطأ طريقه الجنة، ومن يكن في الدنيا ذليلاً
فذلك خير من أن يكون فيها شريفا، ومن يختر الدنيا على الآخرة نفته الدنيا
ولا يصيب الآخرة
فعجبت الملائكة منحسن منطقه فنام نومة فأعطى الحكمة فأنتبه يتكلم بها ثم
نودى داود بعدها فقبلها ولم يشترط ما أشترطه لقمان [فهوى في الهفوات غير
مرة كل ذلك يعفوا الله عنه] وكان لقمان يؤازره بحكمه فقال له داود طوبى لك
يا لقمان اعطيت الحكمة وصرف عنك البلاء وأعطي داود الخلافة وأبتلى بالبلاء
والفتنة وقد سئل: كيف أخترت الحكمة على النبوة وقد خيرك ربك؟
فقال: إنه لو أرسل ألي النبوة عزمة لرجوت فيها العون منه ولكنه خيرني فخفت
أن أضعف عن النبوة فكانت الحكمة أحبَّ إلي وقد أختلف في صنعته فقيل كان
خياطا، وقيل أنه كان يحتطب كل يوم لمولاه حزمة حطب وقال لرجل ينظر أليه:
أن كنت تراني غليظ الشفتين فأنه يخرج من بينهما كلام رقيق، وأن كنت تراني
أسود فقلبي أبيض
وقيل كان راعيا فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك فقال له: ألست عبد بني فلان؟
قال بلى ، قال فما بلغ بك ما أرى؟ قال: قدر الله وأداء الأمانة، وصدق
الحديث، وترى مالا يعنيني، وقد قال سيده يوما: أذبح لي شاة وأتني بأطيبها
مضغتين فأتاه باللسان والقلب فقال له: ما كان فيها من شئ أطيب من هذين؟
فسكت ثم أمره بذبح شاة أخرى ثم قال له: ألقي أخبثها مضغتين فألقى القلب
واللسان
فقال: أمرتك أن تأتيني بأطيب مضغتين فأتيتني بالقلب واللسان، وأمرتك أن
تلقي أخبثها فألقيت بالقلب واللسان؟ فقال له: هما أطيبها إن طابا وهما
أخبثها أن خبثا وقد قال وهب بن منبه قرأت من حكمة لقمان أرجح من عشرة آلاف
باب، وقد روي أنه دخل على داود وهو يسرد الدروع وقد لين الله له الحديد
كالطين فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت فلما أتمها لبسها وقال: نعم
لبوس الحرب أنت فقال: الصمت حكمة وقليل فاعله. فقال له داود بحقًّ ما سميت
حكيما
ولقد آتاه الله الحكمة ليشكر الله فشكر فكان حكيما بشكره، والشكر لله
طاعته فيما أمر به ويعود اثره على الشاكر لأن الثواب عائد إليه وعندما
آتاه الله الحكمة لم يحجبها عن أحد من الناس فكيف بولده الذي هو فلذة كبده
وثمرة فؤاده؟ فقد أعطاه خلاصة تجارية وكان أبا رحيما واعظا رقيقا وهو يوجه
ولده إلى ما فيه السعادة في الدنيا والآخرة، وأول حكمه أن نهى ولده عن
الشرك بالله الذي هو ظلم عظيم وهو ما جاءت أوامر الشريعة به على لسان
الانبياء والمرسلين لمن أرسلوا أليهم وقرر أن التوحيد هو الركيزة الأولى
والأساس الذي يبني عليه كل فلاح
يقول الله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا اله
إلا أنا فاعبدون} الأنبياء الآية 25. ثم تابع أسداء الحكمة لولده بعد
توحيد الله ونهيه عن الشرك فجاء بأعظم وصيه بعد التوحيد وهي التنبيه لولده
على عنصر الرقابة والمراقبة لعلام الغيوب حين قال: يا بني أن أتتك مثقال
حبه من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت الله بها إن الله
لطيف خبير
لقد اراد لقمان أن يبين لولده قدر قدرة الله بأنه لا تخفى عليه خافية في
الارض ولا في السماء لأن الخردلة هي التي يقال عنها إن الحس لا يدرك إلا
ثقيلا لأنها لا ترجح ميزانا، ومعناها أيضاً ان لو كان للانسان رزق مثقال
حبه خردل فيهذه المواضع جاء أليه بها حتى يسوقها إلى من هي رزقه، أي لا
تهتم بالرزق حتى لا تشغل به عن أداء الفرائض، وقد نطقت هذه الآية بان الله
تعالى قد احاط بكل شئ علما وأحصى كل شئ عددا وقد روى أن أبن لقمان سئل
آباه عن الحبة التي تقع في أسفل البحر أيعلمها الله فراجعه لقمان بهذه
الآية
وروى أن ابنه قال: يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها
الله؟ فاجابه بهذه الآية فما زال أبنه يضطرب حتى مات ويستمر لقمان الحكيم
في وعض أحب الناس إليه فيوصيه بأعظم الطاعات وهي الصلاة والأمربالمعروف
والنهي عن المنكر ثم يتبعه بما يلزمها بقولهوأصبر على ما اصابك لأن الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر قد يلحقان بما يقوم بهما ضرراً فنبهه على الصبر
على ذلك وعلى كل ما يلحقه من مصائب الدنيا
ثم يناه على الكبر والتعالي على الناس أي لا تعرض عنهم تكبرا مثل البعير
الذي يلوي عنقه مما به من داء الصعر ويتبع ذلك بالنهي عن أن يمشي متبختراً
مختالاً متكبرا، ثم لما نهاه عن الخلق الذميم رسم له معاني الخلق الكريم
الذي ينبغي أن يستعمله فقال له: وأقصر في مشيك وأغضض من صوتك
أي توسط في مشيك بين الأبطاء والاسراع ولا تتكلف رفع الصوت لأن الجهر فوق
الحاجة تكلف مؤذ تلك هي الوصايا العشر التي جاءت على لسان حكيم مؤمن لأحب
الناس لديه وهو ولده ولو أن الآباء ووسائل التربية ودور العلم والإصلاح
تمسكت بتلك الوصايا التي وصى بها لقمان أبنه وسمعها رب العالمين وأنزلها
قرآن يتلى إلى يوم القيامة لسعدت الدنيا بأهلها وسعد أهلها بها هذه هي
الوصايا الرقيقة التي سيقت في مجال الوعظ بلطف ورقة وحنو ليكون لنا فيها
أسوة حسنة لمن أراد أن يعظ ويذكر الناس بالله والدار الآخرة
وهو القائل لولده: يا بني أن الدنيا بحر عميق قد غرق فيه كل من كان قبلك
فإذا أردت النجاة فيها يا بني فلتكن سفينتك فيها تقوى الله وشراعها التوكل
على الله وحشوها الايمان بالله لعلك تنجوا يا بني ولا أظنك ناجيا والله
الهادي سواء السبيل... الشـيخ عبد الظاهر عبد الله علي